كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أن الذين تقدم ذكرهم، وقعت منهم مظاهرة أو مخابرة وخداع، يقتضي نقض العهد والإخلال به، ولذلك قال: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ}، الآية: 7.
فلو كان ممن تقدم ذكرهم الاستقامة في العهد، لم يجز منه تعالى أن يتبرأ منهم وينقض عهدهم، فكل ذلك يدل على أنه قد كان تقدم منهم نقض العهد، إما ظاهرا وإما سرا.
وقال ابن عباس في سورة التوبة: إنها هي الفاضحة، فهذا القول منه يدل على أنهم نكثوا وأسروا به، فأظهر اللّه تعالى لنبيه ما أسروه بالبراءة منهم، ونبذ العهد إليهم.
وذكر في النقض وجه آخر، من حيث استبعد هؤلاء النقض من جميع المشركين سرا، فقال: سبب نقض العهد، أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لما أراد أن يحج لقابل، وأن اللّه تعالى أعلمه ذلك، وأنه لا يتفرغ إلى الحج إلا بعد العام القابل، لقرب أجله، وكان المشركون يطوفون بالبيت عراة في الطواف، والتعري بحضرته شرك وكفر، فاقتضى ذلك نقض العهد.
وهذا باطل، فإنه لا يجوز من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم النقض لهذه العلة، فإن من الممكن أن يخلى له البيت ساعة، ولا يمكن المشركين من الطواف في تلك الحالة، كما طاف في عمرة القضاء وأخلى له المشركون البيت.
والذي يتعلق بالأحكام من الآية أنه:
لا يجوز نبذ عهد الكفار إلى الكفار إلا بنقض ظاهر منهم، أو توقع نقض، أو إبهام في مدة العهد، مثل أن يقول: نقركم ما أقركم اللّه.
ثم الأمان فسد أو صح، لا يجوز نقضه بالاغتيال، بل بإظهار نبذ العهد إليهم.
فهذا ما يتعلق بالفقه من الآية، وما ذكر في الآية: {إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا}، الآية: 4.
والمتعلق بالأحكام منه وراء ما ذكرناه، أن من كان بين المسلمين وبينهم عهد، فإذا ظاهروا علينا قوما من الأعداء فهو نقض العهد، سواء ظاهروا سرا أو جهرا.
قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ}، الآية: 5.
وفيه سؤال: وهو أن النداء إنما كان يوم الحج الأكبر، والأشهر الحرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وهذه الثلاثة سرد ورجب فرد، فإذا ثبت ذلك، فكيف يقول: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ}، وما بقي إلا أيام قلائل؟
وأجيب عن ذلك من وجوه:
منها: أنه لما كان آخر الأشهر الحرم المحرم، وكان بانقضائه تنقضي الأربعة أشهر، جاز أن يعلق قتال الكفار به.
والوجه الثاني: أن المراد بالأشهر الحرم: الأربعة التي حرم اللّه تعالى فيها قتالهم وأمنهم فيها، وهي: من يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر.
فقوله تعالى: {الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ}، هي التي حرم اللّه تعالى فيها القتل فقط، ولم يعن بالحرم الثلاثة السرد والواحد الفرد، وإنما أراد الأربعة المتوالية من وقت العهد إلى العاشر من ربيع الآخر، وهو قول الحسن.
وفيه شيء، وهو أن اسم الأشهر الحرم لا يتعارف منه غير المعهود، ولا يصير بسبب العهد الأشهر مسماة بالحرم، فلا جرم اختار كثير من العلماء القول الأول.
وقال الأصم: أريد بالآية من لا عهد له من المشركين، فأوجب أن يمسك عن قتالهم حتى ينسلخ المحرم، وهو مدة خمسين يوما على ما ذكره ابن عباس.
قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}، يدل على جواز الأسر بدل القتل والتخيير بينهما، ويدل على جواز قتلهم، أو أسرهم، على وجه المكيدة، لقوله تعالى: {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}.
وقال ابن عباس في قوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} و{ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ}، وقوله: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ}، قال: نسخ هذا كله بآية السيف وهو قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، الآية، وقوله: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}، الآية.
وقال موسى بن غفلة: كان النبي عليه الصلاة والسلام قبل ذلك يكف عمن لا يقاتله، لقوله تعالى: {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا}، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}- إلى قوله- {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}، الآية.
وعموم ذلك يوجب قتل كافة المشركين من أهل الكتاب وغيرهم، فإنه جعل المرد {فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ}، إلا أن الأخبار وردت في أخذ الجزية.
ويجوز أن يكون لفظ المشركين لا يتناول أهل الكتابين، ويقتضي ذلك منع أخذ الجزية من عبدة الأوثان وغيرهم.
واعلم أن مطلق قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}، يقتضي جواز قتلهم بأي وجه كان، إلا أن الأخبار وردت في النهي عن المثلة، ومع هذا يجوز أن يكون الصديق رضي اللّه عنه، لما قتل أهل الردة بالإحراق بالنار، والحجارة، والرمي من رءوس الجبال، والتنكيس في الآبار، تعلق في ذلك بعموم الآية.
وكذلك إحراق علي رضي اللّه عنه قوما من أهل الردة، بالإحراق بالنار، يجوز أن يكون ميلا إلى هذا المذهب واعتمادا على عموم اللفظ.
قوله تعالى: {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ}، الظاهر أنه يوم عرفة، قال عليه الصلاة والسلام: الحج عرفة.
ويجوز أن يكون يوم النحر، وورد في كل واحد منهما أثر، وتسميته الحج الأكبر يدل على أن العمرة أصغرهما.
قوله تعالى: {فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}:
هذه الآية فيها تأمل، فإن اللّه تعالى علق القتل على الشرك، ثم قال: {فَإِنْ تابُوا}، والأصل، أن القتل متى كان الشرك يزول بزواله، وذلك يقتضي زوال القتل بمجرد التوبة، من غير اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك سقط القتل بمجرد التوبة قبل وقت الصلاة وإيتاء الزكاة، فهذا بين.
غير أن اللّه تعالى ذكر التوبة وذكر معها شرطين آخرين، فلا سبيل إلى إلغائهما، وصح أن الصدّيق رضي اللّه عنه قاتل مانعي الزكاة، لا من جحد وجوب الزكاة فقط، بل من قال لا أؤديها إليك.
فقال أبو بكر: «لا واللّه حتى آخذها كما أخذها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم».
وإنما فعل ذلك، فهم العلماء منه قتال مانعي الزكاة، لأن اللّه تعالى شرط أمورا ثلاثة في ترك القتال، فلابد من وجودها جميعا، ودل قوله تعالى في موضع: {فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}، وقال في موضع آخر: {فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ}.
على أن لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مدخلا في تخلية سبيلهم، كما أن للتوبة مدخلا في ذلك، وبذلك احتج أبو بكر رضي اللّه عنه في أن التوبة لا تكفى في تخلية سبيلهم والكف عن قتلهم، حتى ينضاف إليها فعل الصلاة وإيتاء الزكاة، وقال إنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها».
فلم تثبت العصمة بمجرد الإسلام، وذكر أن الزكاة من حقها.
وتعلق علي بذلك في قتال الفئة الباغية، وذهب إلى أن المشركين إذا أسلموا، ولم يقيموا الصلاة، ولم يؤتوا الزّكاة، حل قتالهم وقتلهم.
وقال بعضهم: إنما أراد بذلك الاعتراف بالصلاة والزكاة لا فعلهما، فمن جحد أحدهما فقتله مباح، وهذا يستأصل وجه التخصيص.
فإن قيل: فإذا تاب قبل وقت الصلاة والزكاة فلا قتل عليه، ولم يقم الصلاة ولا الزكاة جميعا.
الجواب: أن التوبة إن كفت على هذا الرأي، فذكر الصلاة والزكاة لغو، وهو بمثابة من يقول: فإن تابوا ودخلوا الدار ولبسوا الثوب.
نعم، فهمنا من جعلهما شرطا خروج ما قبل حالة الوجوب، لأنه لا يجوز أن يجعلهما شرطا، ولما وجبا ولزما.
فالظاهر ما قاله الصدّيق، وهو جواز محاربتهم إذا امتنعوا من القيام بهما.
وقد كان كثير من الناس يعترفون بوجوب الزكاة، لكنهم كانوا يمتنعون من دفعها إليه، وأمر مع ذلك بمحاربتهم وقال: لو منعوني عقالا مما أعطوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لقاتلتهم عليه.
فتبين بذلك أن الزكاة للإمام فيها حق الأخذ، فمتى امتنعوا وانحازوا إلى فئة حل قتالهم وقتلهم، ما داموا مصرين على الامتناع، وكذلك إذا امتنعوا من الصلاة، وفعلها على وجه يظهر.
فإن قيل: فقد خص اللّه تعالى هذا بالمشركين وقتالهم، فمن أين أن هذا جائز في حق المؤمنين؟
والجواب: أنه إذا ثبت أن التوبة تسقط القتل، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة تسقط القتل، فمقتضاه: أن المشرك إذا تاب ولم يصل ولم يزك وجب عليه القتل، وهذا ما نقوله.
يبقى أن يقال: إن الآية أوجبت التسوية بين منع الصلاة ومنع الزكاة، والشافعي يخصص بالصلاة.
والجواب: أن عند الشافعي لا فرق بين البابين، إلا أن في الزكاة أخذها ممكن قهرا، وفي الصيام يمكن أن يحبس في موضع فيجعل ممسكا، والركن الأعظم في الصوم الإمساك، فأما الصلاة، فاستيفاؤها منه غير ممكن، فكان قتل تارك الصلاة من حيث تعذر استيفاؤها منه، بمثابة قتل تارك الزكاة إذا انحاز إلى فئة.
قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}، الآية: 6.
اعلم أن هذا لا دلالة فيه على أمان مشرك، ووجوب بذل الأمان فيمن يطلب الأمان، وذلك أن اللّه تعالى إنما ذكر ذلك وشرع الأمان لفائدة، وهي سماع الأدلة من كتاب اللّه تعالى، والكفار متى طلبوا تعرف التوحيد والعدل وبطلان ما هم عليه وجب ذلك، وإذا وجب على الرسول صلّى اللّه عليه وسلم، وجب على سائر الأمة، بل على سائر المجاهدين.
ولا يحل للمجاهد قتل الكافر مع طلبه التعرف للدين، والوقوف على الأدلة، لأنه لو حل قتله، لم يجز أن يجار وأن يؤمن، فلذلك لا يجوز أن يخلو المجاهدون من العلماء، لأنه لا يأمن أن يكون في الكفار من يلتمس ذلك، فإذا لم يجد من يحل شبهته، ويثبت له طريقة الحق، لم تجز مقاتلته.
فلو قالوا: إنا نريد الوقوف على طريق الحق وتمييزه عن الباطل، فأمهلونا ودعوا مقاتلتنا، لوجب ذلك، وكما يجب أن يكون في عسكر الإسلام من يستعد لقوة الدين بالسلاح والعدة، فكذلك يجب أن يكون فيهم من يستقل بقوة المناظرة وتعريف الأدلة.
فقوله تعالى: {فَأَجِرْهُ}، أمر دال على الوجوب، ولا وجوب إلا عند هذا الغرض، وليس هذا الغرض من الأمان المعروف في الشرع في شيء، فإن الامان هو الذي يحصل بسبب من المسلم موقوفا على خيرته: إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، وفي الاستجارة لغرض الاستماع لكلام اللّه عز وجل، يجب الأمان، وتنكف السيوف عن رقبته، ويتحرس دمه متى طلب ذلك، سواء كان جرى منا الأمان أو لم يجر.
أي بعد السماع، لأنه لا فائدة في مقامه عندنا. والأمان الذي تعارفه الفقهاء، أن يؤمن كافرا لا يبغي به سماع كلام اللّه عز وجل، حتى إذا استمع أبلغه مأمنه، بل يبغى به أمانه حتى يتجر ويتسوق ويقيم عندنا مدة لغرض لهذا المسلم، وذلك ليس ما نحن فيه بسبيل.
قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ}، الآية.
يدل على أن من نفى أن يكون له عهد، إنما نفاه من حيث لم يستتم، بل غدر سرا أو جهرا، أو خيف منه الغدر، وذكر الشرك ذكر الباعث على الغدر ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ}.
فإنه لم يظهر منهم غدر.
{فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ}.
وهذا يدل على أن من نقض عهده فإنما نقضه لمكان الغدر وتوقع الجناية، وإلا فلو استوى المستثنى والمستثنى منه في الاستقامة والوفاء لاستويا في وجوب الوفاء، ويدل عليه قوله تعالى فيما بعد: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً}
فبين اللّه تعالى أن المعلوم من حالهم الغدر عند التمكن، وأنهم ينتهزون فرصة الاغتيال والمجاهرة بسر المكاشفة.
وبين أنهم في إظهار التمسك بالعهد منافقون لقوله: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ} وقوله: {إِلًّا}، يحتمل القرابة والعهد والجوار.
ويحتمل أن يكون من أسماء اللّه تعالى يحلف به، فأبان أنهم لا يثبتون على العهد واليمين.
قوله تعالى: {فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ} [الآية: 11].